لبنانيو إسرائيل مجرمون بلا جريمة

بقلم/الأنسة جولي أبوعرّاج

منذ أكثر من ثلاثين عاماً غربت شمس الحقّ عن الجنوب اللبنانيّ وأهله، وأغلقت أبواب العدالة في وجههم حتى أصبحوا فكراً صامتاً مختبئاً في زوايا النسيان.

ُتركوا في ارض مزقت أديمها سلاح الغرباء الذين حجبوا بدخان حقدهم سلام شعب، كتب بدم القلب معاني الألم وقسوة الإهمال. فدفع ثمناً من حياته، تلبية لإرادة قوى فاعلة على أرض لبنان "قوى لا ترضى بغير المدافع السنةًًًً ولا تقنع بسوى القنابل ألفاظاً".

هبط ظلام الظلم على هذه الفئة من الشعب اللبنانيّ فحول حياتهم إلى سواد. صرخوا، استغاثوا،لم يلتفت أحداً لهم، وإذ بخيال الموت منتصباً في وسطهم وأجنحته السوداء تخيّم عليهم.

على مدى عقدين ونيف خاض أهالي المنطقة الحدودية معركة البقاء موحدين، متحدين على اختلاف مللهم وأطيافهم وعقائدهم، جاعلين من أجسادهم لحوداً لكل من يحاول تدنيس أرضهم وسلب بيوتهم والتعرض لعرضهم، قبل أن يتحولوا إلى (كبش محرقة) وضحية جغرافية وتاريخية للاتفاقات الدولية التي حملتهم خلف الحدود. إلى المنفى على وقع حنجرة التهديدات النارية البركانية التي تناثرت حممها على مسمعهم ومسمع الكون بأسره. ومَن لم يسمع كلمات أمين عام حزب الله: "هؤلاء العملاء القتلى المجرمين الخونة أمامهم واحدة من ثلاث حالات:

إما أن يخرجوا مع العدو.

وإما أن يسلموا أنفسهم للقضاء اللبناني.

وإما أن يقتلوا برصاص المجاهدين.."

"بعد أن يخرج العدو إن لم تخرجوا معهم، نحن آتون إليكم ليس للسلام.. نحن آتون إليكم بالبنادق"

ست سنوات مضت على رحيلهم، على غربتهم الثانية. رحلوا بصمت لان آذان العالم قد انصرفت عن همس الضعفاء وأنينهم.

رحلوا على مرأى الجميع، حاملين أفكارهم وعواطفهم وميولهم الوطنية التي انزوت في الظل. ومبادئهم ورغبتهم في البقاء في ديارهم التي توارت وراء نقاب الإهمال تاركين دموعاً ودماء أهرقت في بلاد كتب لها الدهر المأساة.

بعد بزوغ فجر الاستقلال في لبنان، الذي دخل عهداً جديداً يمهد لبناء وطن جديد لجميع (أبنائه)، تنفس هؤلاء الصعداء وأعتبروا أن الحق لن ُيصرع، ولا بد أن يحمل الأحرار قضيتهم ليضعوا حداً "لنكبتهم".

وبالفعل صدح صوت الرئيس ميشال عون في المجلس النيابي مطالباً بعودة (لاجئي إسرائيل) بكرامة إلى ديارهم، حاملاً ملفهم، مناوراً لنصرتهم في أكثر من مناسبة ليتوج دفاعه عنهم بوثيقة التفاهم التي جمعته بحزب الله، فحملوا البند رقم (6) من الاتفاق الثنائي.

من يومها تسارعت وتيرة التطورات المتعلقة بملفهم ولا سيما في الآونة الأخيرة، حيث بدأت المفاوضات والمناقشات لاستعادتهم، وضجت وسائل الإعلام بأخبار عودتهم وهم غائبون لا بل مغيبون عن ساحة المداولات التي تحدد مصيرهم وترسم مستقبلهم.

يتتبعون أخبار رحلتهم المجهولة المصير عبر وسائل الأعلام وتصريحات (قياديي التيار الوطني الحر ) الذين ينشرون أنباء (عودة) في القريب العاجل.لا شك أن اهتمام "لحزب البرتقالي" بقضية لبنانيي إسرائيل عمل جدير بالاحترام والشكر كونه يهدف إلى لمّ الشمل اللبناني الذي شتته نار الحرب اللبنانية. إلا أن آلية التعاطي بهذا الملف جعلت الجهود والمساعي المبذولة تحمل أكثر من علامة استفهام على أكثر من صعيد أقله من وجهة نظر أصحاب القضية وكأنه مكتوب عليهم أن يقرر الغير مصيرهم وغد أولادهم.

بالأمس خرجوا بقرار خارج عن إرادتهم واليوم يقررون عودتهم دون أن يلتفتوا إلى مطالبهم أو يسمعوا ما أفرزه وجعهم.

أأصبحوا ألعوبة في يد الزمن، ألعوبة في المصير والحياة؟؟!

 يطالبونهم العودة على أن تأخذ عدالة القضاء اللبناني مجراها.

لم نعرف عن أية عدالة تحدثوا.

أهي عدالة تبرئة سلطان أبو العينين من تهمة الإرهاب؟!

أو عدالة إبطال ملاحقة 6 لبنانيين وسوري متهمين بالانتماء إلى القاعدة؟!!

أو عدالة إيقاف بث حلقة برنامج "الفساد" واستدعاء مقدمته؟؟!!

وغيرها من (عدالات)

يبحثون قضيتهم ويحددون مصيرهم على ضوء دراسة "ملفاتهم". وهنا يكمن العجب! خصوصاً أن هذه الملفات من مخلفات عهد "الوصاية السورية"، ومَن أدرى من "التيار الوطني الحر" بكيفية تلفيق الملفات وإلصاق التهم الباطلة، وهم الذين عاشوها وعاينوها وعانوا من جورها؟

ملفات طبخت في أروقة القرارات السابقة، خدمةً لفاعليها، لتقدم كصفحة سوداء من صفحات تاريخ الظلم الجماعي. فإستناداً إلى هذه (الملفات) قامت  المحكمة العسكرية الدائمة في شهر شباط من العام الجاري، بإصدار سلسلة من الأحكام في جرائم تعامل مع العدو ومن بينها" الأشغال الشاقة لمدة 15 سنة ومليون ليرة غرامة وتجريدها من الحقوق المدنية" لفتاة لم تتجاوز الرابعة عشر من عمرها - أي عند دخولها "أراضي الدولة المحتلة " لم تكن قد بلغت الثامنة من عمرها. نموذج واحد فقط كفيل بعكس (عدالة الملفات الباطلة).

إن كان قياديي التيار الوطني الحر مؤمنون فعلاً بظلم (لبنانيي إسرائيل) وبأنهم ضحايا الحرب اللبنانية المؤلم " فلماذا يطالبونهم العودة والوقوف في المحاكم؟ أيحاكم المظلوم؟

لا شك أن الدافع الإنساني العام النبيل والشريف المحض هو وراء هذه المطالبة، لكن الإنسانية لا تقوم على حساب "الحقوق الإنسانية".

 الإنسانية تقتضي العدالة والحق والواجب الإنساني يجهد نفسه من اجل الدفاع عن المظلومين لا المشاركة في محاكمتهم. من هنا، أصبح العفو العام واجب مقدس لهذه الحفنة من اللبنانيين ليركبوا الموجة الجديدة التي تحملهم إلى شاطئ لبنان الجديد النظيف والأمين.

إن أرادوا محاكمتهم بتهمة (العمالة) التي فرضت عليهم، فالعدالة تقتضي بأن يحاكم جميع (العملاء)في لبنان الذين سخّروا أنفسهم بملء إرادتهم خدمة لدول إقليمية معادية للكيان اللبناني أسوة (بإسرائيل).

وإن أرادوا عدم فتح ملفات الماضي واعتماد مقولة "عفا الله عما سلف"، فالعدالة تقتضي بأن يشمل العفو لاجئي الدولة العبرية.

الوصول إلى حلّ مثالي ليس بالأمر السهل، في ظل قوى لبنانية تحكم لبنان وهدفها الوحيد" الانتفاع من الأمة" لا نفعها. والعمل التدريجي، الذي يحاول أن يقوم به المهتمين بهذا الملف، هو عمل عملاني ومنطقي، لكن لا يكون على حساب كرامات "اللاجئين اللبنانيين في إسرائيل". فالظهور المتكرر عبر وسائل الإعلام  لإشاعة خبر عودتهم "الغير دقيق" يأتي في خانة المتاجرة السياسية والترويج (الكاذب) على أنهم يتسكعون على طرقات مدن إسرائيل دون مأوى أو عمل،  جرم يطعن بكراماتهم ومستقبلهم، فهم لم يرحلوا حباً بالرحيل.

رحلوا لأنهم رفضوا الذلّ في ارض الكرامة، لأنهم لم يعتادوا التحديق بالتراب.

 لأنهم رفضوا أن يكونوا عبيدا لمن يدّعون الحرية.

رحلوا خوفاً على مستقبل أبناء دُفن مع قضية حيكت لها الأشواك.

لم يعرفوا الذلّ يوم كان سيد الموقف في لبنان، ولم يعرفوه على درب جلجلة الآلام، فلماذا تهيئون لهم "كأس الرجاء" بطعم العلقم والهوان؟

إن تعلقهم بهويتهم قوة دفع للوطنيين الحقيقيين، ولفظ "لبنان" وحده كاف لإبدال ابتساماتهم بالدموع وتحويل أنغام "مسرتهم إلى الشوق والحنين".

يفضلون الأشواك التي تنبت في سهول وطن الأرز على ورود وزنابق الدولة التي تضمهم، ويتمنون العيش في أكواخ قراهم على الشقق والبيوت التي تأويهم في الدولة التي تستوعبهم. لكن إذا توفر عامل وجودهم (كرامتهم).

وطن الإنسان حيث كرامته ووطننا يطعن بكرامة (أبنائه).

أين الكرامة في وطن يدّعي أنه لجميع (أبنائه)، ومصير منطقة بأكملها يعتمد على حزب واحد شبه حاكم؟

أين الكرامة في وطن إن عاد (أبناؤه)،لا يعرفوا إن كان مأواهم ديارهم، سجنهم أو قبورهم؟

أين الكرامة في وطن لا يضمن وحدة الأسرة تحت سقف واحد؟

أين الكرامة في وطن يلقب فيه (أبنائه) ب"حقيرون في المنفى"،عملاء ،" خونة" وينعتونهم "بالتسكع"؟

لم يعبأ أحد لرأي أصحاب القضية، وكم هذا مؤلم، بل جلّ الهم موجهاً لمعالجة الموضوع مهما كان الثمن دون النظر إلى تداعياته الإنسانية. هكذا هم اللبنانيون، يحاولون معالجة الأمور على هواهم، لا يفتشون عن الدواء بل يشخصون العلاج دون النظر إلى مصدر الأوجاع والآلام.

13 نيسان 2006