في ذكرى استشهاد الرئيس بشير الجميل
كلام لا بد منه لمنعة المسيحيين اللبنانيين
بقلم الصحافي/ بيار عطاالله
بعد أيام تحل الذكرى الرابعة والعشرون لاغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل وها هو لبنان حر مستقل تماما كما أراده، رغم ان السيادة لم تكتمل بعد وهي لا تزال عرضة للانتهاك. لكن أهم ما تحقق من حلم بشير هو اجتماع غالبية اللبنانيين على شعار "لبنان أولا"، الذي أطلقه الجميل وكان شعار المقاتلين في ميليشيا "القوات اللبنانية" بداية الحرب.
لقد أثبتت الأيام صحة ذهاب أكثر المسيحيين إلى القتال وكل ما رفعوه من شعارات سيادية دفاعا عن الكيان أصبحت مطلب أكثرية اللبنانيين، مهما حاول البعض مصادرة النضالات وتزوير الحقائق. تحقق جزء كبير من حلم بشير الجميل الذي بدأ حياته مقاتلا حزبيا ميليشيويا وانتهت حياته رئيسا بكل معنى الكلمة يؤمن بالتعايش المشترك في لبنان التعددي المنسجم مع محيطه العربي. لكن ما لم يتحقق من الأحلام هو منعة المسيحيين وقوتهم ووحدتهم، رغم ان المسيحيين كان لهم شرف مقاومة الأطماع السورية والتنظيمات الفلسطينية المسلحة طوال 30 عاما، منذ ان نزل شبابهم إلى المتاريس لمواجهة انفلات السلاح الفلسطيني وتحوله مشروع دولة ضمن الدولة، ألم يعلن رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات "سأحكم غزة والضفة كما حكمت لبنان". لقد دفع المسيحيون ثمنا كبيرا لممانعتهم حكم الدويلة الفلسطينية في مجازر الدامور والعيشية وبيت ملات وتل عباس والقاع وغيرها، واقتلعوا من أرضهم بعد معارك ومجازر وسويت دور عبادتهم بالأرض، أين منها الاعتداءات الإسرائيلية على أهل الجنوب، ورغم كل ذلك صمد المسيحيون.
في ذكرى استشهاد بشير الجميل لا بد من التكرار ان المسيحيين كان لهم أيضاً شرف الصمود والممانعة منذ 13 تشرين الأول 1990 تاريخ اجتياح مناطقهم، يومها دخل الجيش السوري بالقوة آخر بقعة للشرعية اللبنانية وسقط قصر بعبدا ووقع لبنان بكليته تحت الوصاية والهيمنة السورية. ولكي لا ننسى يجب التذكير ان إحياء ذكرى اغتيال الشيخ بشير الجميل كان يتم وسط ظروف صعبة وتهديدات وقمع لأدنى مظاهر التعبير عن الرأي. لقد اعتقل الألوف من الشباب المسيحيين (15 الفا) وزج بهم في المعتقلات وقتل بعضهم تحت التعذيب، جرى تهميش دورهم السياسي والاقتصادي والثقافي، ونصبت طبقة من السياسيين المتعاونين مع سوريا لتولي أمورهم ومصادرة تمثيلهم السياسي. ورغم كل ذلك صمد أكثرهم والتزموا جانب شعارات الحرية والسيادة والاستقلال التي رفعها بشير الجميل.
يتذكر المسيحيون وتحديدا جموع "القواتيين" منهم ذكرى 14 أيلول بثلاثة قداديس أو أربعة عادة، واحد لحزب "القوات" وقائدها الرسمي سمير جعجع، وآخر ل"مؤسسة بشير الجميل" وثالث لرابطة سيدة ايليج التي تضم مجموعة من كوادر "القوات" السابقين تخلى جعجع عنهم حتى الآن لأسباب مبهمة ولم يتخلوا عنه، وقداس رابع لمجموعة أخرى تطلق على نفسها اسم "قدامى القوات" ومن بينهم مسؤولون كبار ومقاتلون سابقون لم يعترفوا بقيادة جعجع يوماً. وفي كثرة الاحتفالات التذكارية مدعاة للتفكير، أنهم المسيحيون مرة جديدة "لا يزالون يبحثون عن بشير" تماما كما كتبت الزميلة فيفيان صليبا داغر عام 1984 عنواناً في جريدة "العمل" الكتائبية للحديث الصحافي الأول يجريه جعجع الشاب الخارج من تجربة حصار دير القمر المريرة. بعض هؤلاء وجد ضالته أخيرا في النائب العماد ميشال عون وانخرط في "التيار العوني"، والبعض الآخر وجدها في الدكتور سمير جعجع فانضم إلى صفوف حزب "القوات اللبنانية" وآخرون اختاروا العمل مع السيد نديم بشير الجميل في حزب الكتائب، لكن جزءا كبيرا من المسيحيين لا يزال خارج صفوف أحزاب "التيار" و "القوات" و الكتائب يبحث عن منعة المسيحيين وقوتهم .
للعماد ميشال عون موقف هو حر به ومن يرى فيه مشروع الحل حر في ذلك . لكن السؤال الكبير في ذكرى الرئيس بشير الجميل يجب ان يوجه إلى رئيس الهيئة التنفيذية لحزب "القوات" سمير جعجع، المسؤول تاريخيا عن حفظ إرث بشير الجميل وشعارات المؤسسة. فها قد مضى عام وأكثر على خروجه من المعتقل ومن الواضح ان مؤسسة "القوات" الرسمية التي تعمل بإمرته لا تزال أسيرة المعادلات ولم تنجح في استعادة حيويتها لا في صفوف محازبيها ولا في الجمهور المسيحي، رغم ان سني الاعتقال الطويلة حولت سمير جعجع "قديساً حبيساً لدى المسيحيين"، كما وصفه ذات مرة أحد الصحافيين .
لعام مضى واثناء احياء "التيار العوني" ذكرى الاجتياح السوري للمناطق الشرقية في العاصمة الفرنسية، وصل سمير جعجع ودخل كنيسة سيدة لبنان متقدما الحضور إلى جانب قادة "التيار" و "القوات" في فرنسا. يومها بكى كثر من المسيحيين في الكنيسة تأثراً، وهم في أكثرهم من الجمهور المؤيد للعماد ميشال عون وبادروا إلى معانقة "الحكيم" الخارج إلى الحرية، معتبرين ان "القوات" طوت صفحة الخلافات المسيحية إلى الأبد، وانه أطلق صفحة منعة المسيحيين ووحدتهم. استبشر الجميع خيرا (رغم مواقف بعض المتزمتين في تيار عون من بقايا اليسار والأجهزة والإقطاع السياسي). لكن الأمور وصلت إلى الخلاف، ولكل من تياري عون و"القوات" أسبابه وحيثياته وهذا بحث أخر.
لكن السؤال الذي يطرح على رئيس "القوات" الرسمي هو :"أين أصبحت القوات ؟". "القوات" التي عانت تنظيما ومناصرين وأصدقاء ما عانته من قمع واضطهاد أوصلا قائدها إلى السجن المؤبد وكوادرها إلى المعتقلات والمنافي والمقابر كما جرى مع سليمان عقيقي ونديم عبد النور وإيلي أبو جودة وفوزي الراسي وغيرهم، تستحق اليوم بعد سنة ان تواجه بسؤال بسيط من هذا العيار، أمانة للتاريخ ولتضحيات الشهداء ولكل المعتقلين والمضطهدين والمنفيين والقابعين حتى الساعة في السجون السورية.
لقد بدأ الدكتور سمير جعجع مشروع مصالحة كبيراً بمشاركته في القداس السنوي لشهداء مجازر 13 تشرين الأول 1990 ، وكان عليه ان يستكمله بالتصالح مع "القواتيين" جميعا الذين عملوا معه أو من أصحاب الاتجاهات الأخرى، إذ لا مشكلة في هذا العالم لا يمكن ان تجد لها حلاً على ما يردد جعجع نفسه. والمسألة ليست فرضا ولا قسرا لكنها يجب ان تكون فعل مصالحة مع الذات، فكيف يعقل ان يتصالح القائد الرسمي ل"القوات" سمير جعجع مع الحزب التقدمي الاشتراكي، الرمز الآخر لحرب الجبل الكارثية بين المسيحيين والدروز، دون ان يحقق المصالحة بين مجموعة مهمة من كوادر "القوات" ومسؤوليها؟ هناك أسماء كثيرة وقفت إلى جانب مشروع سمير جعجع "مؤسسة نحو المستقبل" مثل انطوان نجم وفيفيان صليبا داغر و"مجموعة إيليج" المتكوكبة حول فادي الشاماتي وصعود أبو شبل ورفاقهما، وسلمان سماحة وحنا عتيق وتوفيق هندي وإيلي الحاج، وكل أسرة مجلة "المسيرة" التي لولاها لامحت صورة جعجع من الأذهان في مراحل طويلة من سنوات اعتقاله المديدة . وغير هؤلاء كثر جداً، ومن يتفرس في صورة من كانوا يحيطون بجعجع في ما مضى لا يمكنه ألا يسأل أين روجيه ديب وألفرد ماضي وبول عنداري وبقية مستشاريه وأركانه الذين لم يحيدوا عن الخط ولا خانوا الأمانة ؟
لا يصح منطق التخوين والتهشيم مع هؤلاء الذين ذاقوا طعم القهر، كل بطريقة مختلفة، لمجرد أنهم "قواتيون". بل يجب اعتماد منطق المصالحة والمناقشة والحوار كي يتصالح المرء مع ذاته وبيئته ومحيطه. صحيح أن لكل من هؤلاء مآخذه وملاحظاته القيمة وأخطاءه أيضا، وهذا أمر طبيعي بعد 15 عاما من الاحتلال والقمع والهيمنة. ومن كان أصلاً طوال تلك الحقبة دون أخطاء ؟ لكن منطق الوحدة والمصالحة يقتضي تجاوز كل العقبات، وعدم الوقوع في منطق الكيدية بين رفاق القضية الواحدة، خصوصاً أن معظم أسباب الخلافات والحزازات تغلب عليها اعتبارات شخصية هامشية وثانوية، مجرد تناولها معيب فعلاً، سواء علانية أو همساً .
الإجابة عن سؤال المصالحة الأول يغني عن المضي قدما في مناقشة أسئلة أخرى في مسيرة "القوات" وخطها السياسي العام كتيار مسيحي مقاوم متشبث بالأرض والتراث، ولا يزال يحظى بتأييد ضمني كبير لدى الرأي العام المسيحي. ان أحد أسباب فوز العماد ميشال عون الكبير في الانتخابات النيابية كان استلهامه واستيحاؤه واستخدامه خطاب بشير الجميل في الدفاع عن المسيحيين وحريتهم وقوتهم، وقبضة يد ميشال عون التي يهوي بها على الطاولة تشبها ببشير الجميل ليست إلا فعلا مدروسا بعناية(...).
وهنا سؤال أخر لقائد مؤسسة "القوات" الرسمية: ما الذي يمنع المصالحة والتعاون والعمل المشترك مع رفاق الرئيس المنتخب بشير الجميل وهم كثر، ولهم قواعدهم الشعبية وكوادرهم ولبعض منهم هيئات تنظيمية، وان كانت محدودة نسبيا ؟ سجعان القزي، فؤاد ابو ناضر، نديم بشير الجميل، مسعود الأشقر، جو إده، جورج فوريدوس، ابرهيم حداد، ريمون رزق، يوسف بعقليني وكثر غيرهم، كلها أسماء لها وقعها في بيروت وجبل لبنان والبقاع والشمال؟ ما الذي يحول دون المصالحة كما كانت عليه الأحوال بين القوميين السوريين لسنين خلت، عندما توحد جناحا الطوارئ والمجلس الأعلى في حزب واحد ؟
24 عاما مضت وذكرى بشير الجميل لا تزال تجمع حشودا مؤيدة ويعني ذلك، أنها قضية تجمع ولا تفرق، فلماذا الاستمرار في الفرقة والانقسام وإلقاء اللوم دوماً على الآخرين في ضعف المسيحيين ومصادرة تمثيلهم؟
11 أيلول 2006